كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رؤوس الملأ ثم لم يُمْض له نُزِع من ملكه؛ ففعلت ذلك.
قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله.
قال: فساخت بأمّها الأرضُ.
قال ابن جُدْعان: فحدّثت بهذا الحديث ابنَ المسيّب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا؛ قال: إن زكريا حيث قُتل ابنه انطلق هاربًا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هُدْبة تكفّتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهُدْبة فدعوا بالمِنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها.
قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المِنْهال عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس قال: بعث عيسى ابنُ مريم يحيى بنَ زكريا في اثني عشر من الحواريّين يعلّمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... وذكر الخبر بمعناه.
وعن ابن عباس قال: بُعث يحيى بنُ زكريا في اثني عشر من الحواريّين يعلمون الناس، وكان فيما يعلّمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كلَّ يوم حاجةٌ يقضيها، فلما بلغ ذلك أمَّها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك فقال ألك حاجةٌ فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا؛ فقال: سليني سوى هذا! فقالت: ما أسألك إلا هذا.
فلما أبت عليه دعا بطَسْت ودعا به فذبحه، فندَرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تَغْلِي حتى بعث الله عليهم بختنصّر فألْقَى في نفسه أن يقتل على ذلك الدّم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفًا، في رواية خمسة وسبعين ألفًا.
قال سعيد بن المسيّب: هي دِيَةُ كل نبيّ.
وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفًا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفًا وسبعين ألفًا.
وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا.
وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلي المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغيّر.
وعن قُرّة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن عليّ؛ وحمرتها بكاؤها.
وعن سفيان بن عُيَيْنة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هَمٍّ، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يُبعث فيشهد مشهدًا لم ير مثله؛ قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًا}.
كله من التاريخ المذكور.
واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة؛ فقيل: بختنصر.
وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره.
قال السُّهَيْلِيّ: وهذا لا يصح؛ لأن قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبختنصر كان قبل عيسى بن مريم عليهما السلام بزمان طويل، وقبل الإسكندر؛ وبين الإسكندر وعيسى نحوٌ من ثلثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بختنصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرّب بيت المقدس وأتبعهم إلى مصر وأخرجهم منها.
وقال الثعلبي: ومن روى أن بختنصّر هو الذي غزا بني إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السِّير والأخبار؛ لأنهم مجمعون على أن بختنصر إنما غزا بني إسرائيل عند قتلهم شَعْيَا وفي عهد إرْمِيَاء.
قالوا: ومن عهد إرمياء وتخريب بختنصّر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدّون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلثمائة وثلاثًا وستين سنة.
قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله.
قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى وبعض الناس يقول: لما قتلوا زكريا بعث الله إليهم ملكًا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشأم، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن اظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تَغْلِي، فسألهم فقالوا: دَمُ قربان قرّبناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة.
قال ما صَدَقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلًا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذُبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سَبْيِهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يَبْرُد، فقال: يا بني إسرائيل، أصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتله.
فلما رأوا الجَهد قالوا: إن هذا دم نبيّ منا كان ينهانا عن أمور كثيرة مِن سَخَط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قطّ طرفة عين ولا همّ بمعصية.
فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدًا ثم قال: لمثل هذا يُنتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس، وخلا في بني إسرائيل وقال: يا نبيّ الله، يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقي منهم أحدًا.
فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب، إني آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدّقت به؛ فأوحى الله تعالى إلى رأس من رؤوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق.
ثم قال: إن عدّو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خَنْدَقًا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفني بني إسرائيل.
قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حُذيفة، وقد كتبناه في كتاب التذكرة مقطعًا في أبوابٍ في أخبار المَهْدِيّ، نذكر منها هنا ما يبيّن معنى الآية ويفّسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيمًا جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو من أجَلّ البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودُرّ وياقوت وزمرد»: وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سَخّر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف.
قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصّر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسَبُوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفًا ومائة ألف عجَلَة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ مَن في أيديهم من بني إسرائيل؛ فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من بيت المقدس وردّه الله إليه كما كان أول مرة فقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسَّبْي والقتل، وهو قوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلطّ الله عليهم ملك الروم قَيْصر، وهو قوله: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا} فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم وأخذ أموالهم ونساءهم، وأخذ حلي جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفًا ومائة ألف عَجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدّي فيردّه إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يُرْسَى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأوّلين والآخرين» وذكر الحديث.
قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} أي من المرتين؛ وجواب {إذا} محذوف، تقديره بعثناهم؛ دلّ عليه {بعثنا} الأوّل.
{لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} أي بالسَّبْي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم؛ ف {ليسوءوا} متعلق بمحذوف؛ أي بعثنا عبادًا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم.
قيل: المراد بالوجوه السادة؛ أي ليُذِلّوهم.
وقرأ الكسائي: {لنسوءَ} بنون وفتح الهمزة، فعلُ مخبر عن نفسه معظّم، اعتبارًا بقوله: {وقضينا} و{بعثنا} و{رددنا} ونحوه عن عليّ.
وتصديقها قراءة أبي: {لنسوءنّ} بالنون وحرف التوكيد.
وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وَثّاب وحمزة وابن عامر: {ليسوءَ} بالياء على التوحيد وفتح الهمزة؛ ولها وجهان: أحدهما ليسوء الله وجوهكم.
والثاني ليسوء الوعدُ وجوهكم.
وقرأ الباقون: {ليسوءوا} بالياء وضم الهمزة على الجمع؛ أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم.
{وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ} أي ليدمّروا ويهلكوا.
وقال قُطْرُب: يهدموا؛ قال الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل ** يُتَبِّر ما يَبْنِي وآخر رافع

{مَا عَلَوْاْ} أي غلبوا عليه من بلادكم {تَتْبِيرًا}.
قوله تعالى: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ}
وهذا مما أخبروا به في كتابهم.
و{عسى} وعد من الله أن يكشف عنهم.
و{عسى} من الله واجبة.
{أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامه منكم، وكذلك كان؛ فكثّر عددهم وجعل منهم الملوك.
{وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فهم يُعطون الجزية بالصَّغار؛ وروي عن ابن عباس.
وهذا خلاف ما تقدم في الحديث وغيره.
وقال القُشَيْرِيّ: وقد حلّ العقاب ببني إسرائيل مرتين على أيدي الكفار، ومرة على أيدي المسلمين.
وهذا حين عادوا فعاد الله عليهم.
وعلى هذا يصح قول قتادة.
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أي محْبسًا وسِجْنًا، من الحَصْر وهو الحبس.
قال الجوهري: يقال حصره يحصره حصرًا ضيق عليه وأحاط به.
والحصير: الضيق البخيل.
والحصير: البارِيّة.
والحصير: الجنْب، قال الأصْمَعِيّ: هو ما بين العِرْق الذي يظهر في جنب البعير والفرس معترِضًا فما فوقه إلى منقطع الجنب.
والحصير: الملِك؛ لأنه محجوب.
قال لبيد:
وقماقِمٍ غُلْبِ الرّقاب كأنهم ** جنّ لدى باب الحصير قيام

ويروى:
ومَقامةٍ غُلْب الرقاب

على أن يكون غلب بدلًا من مقامة كأنه قال: ورُبَّ غُلْبِ الرقاب.
وروي عن أبي عبيدة:
لدى طرف الحصير قيام

أي عند طرف البساط للنعمان بن المنذر.
والحصِير: المَحْبِس؛ قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}.
قال القُشَيْرِيّ: ويقال للذي يُفترش حصيرًا؛ لحصر بعضه على بعض بالنسج.
وقال الحسن: أي فراشًا ومهادًا؛ ذهب إلى الحصير الذي يفرش، لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرًا.
قال الثعلبي: وهو وجه حسن. اهـ.